الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة بقلم الناقد الطاهر الشيخاوي: بحثا عن الفن في مهرجان كان...

نشر في  25 ماي 2016  (10:53)

بقلم الناقد الطاهر الشيخاوي
مراسلنا من مهرجان كان

لا فائدة من تكرار ما قلنا وما قيل حول جوائز الدورة 69 لمهرجان كان السينمائي ولا فائدة من التركيز على الحيف الذي تعرض له وما زال يتعرض له عدد من الأعمال الهامة في مثل هذه التظاهرات التي لا تهدف في الواقع إلى إبراز الإضافة الفنية بقدر ما ترمي إلى الإشادة بالقيمة الثقافية، والفرق بين الأمرين بيّن، فالفنّ ابتكار وجرأة وتجاوز للمعهود أما الثقافة فهي قيمةٌ مُعتَـرف بها لدى المجموعة، قابلة للقياس والتقدير.
ومهرجان كان السينمائي مبنيٌّ أساسا على مزيج من الفن والتجارة والسياسة، ومن الغباء اعتبار أن للفنِّ غلبةً في ذلك.

ولكن الحكمة في تقدير كميّة الفن في المعادلة، فالخلطة مركّبة حسب هندسة فيها الثابت والمتحول وهذا لا يظهر في الحقيقة في نتائج لجنة التحكيم (وهي خلطة أخرى يعسر التنبؤ بنتائجها) بل في توزيع الأفلام بين مختلف أقسامه.  سبق أن قلنا إن عدد العروض في السوق تتجاوز خمس مرات عدد الأفلام المبرمجة في الأقسام الرسمية والموازية، ويعتبر مهرجان كان من أهم إن لم يكن أهم سوق سينمائية في العالم. فلم التعجب من عدم الإكتراث بأعمال مثل « أكواريوس » على ألاّ ننسى أنه في أرقى أقسام المهرجان؟ المهم أن نَتبيّـن الفنّ فيه.

إذا استثنينا ما ثبتت رداءته لدى الجميع مثل « ذو لاست فايس » لتشين بين (حيث يميل فيه الثقافي للسياسي ويغيب فيه الفنّي) سوف نجد في الحقيقة صنفين من الأفلام: صنفٌ يجمع بين حذق التقنيات السينمائية المعترف بها وجِدًّية الموضوع وحرص على حسن استعمال التّـقنيات للتعبير عن الموضوع و صنف آخر لا يهمه الجمعُ بين التقنيات والموضوع ولا يسعى لوضع التقنيات في خدمة الموضوع بل يحاول التعبير عن رؤية خاصة تلتقي فيها التقنيات بالموضوع في حركة متجانسة لا تجمع بمهارة ونجاعة الشكلَ بالمحتوى بل تلتقي فيها طبيعيا وبالضرورة المادّة بالمواد. شريط كان لوتش « أنا، دانيال بلاك » ينتمي للصنف الأول و« أكواريوس» لـ«كليبير مندوشا فيلهو» ينتمي للصنف الثاني. شريط « الحريف » لأصغر فرهادي ينتمي للصنف الأول و«توني إدرمان» لمارن آد ينتمي للصنف الثاني. طبعا هذا لا يعني أن لجنة التحكيم لم تختر إلا ما ينتمي للصنف الأول ولكنها لم تختر من الصنف الثاني ما تجاوز المعهود واخترق مجالات لا عهدَ لها بها. فنوعية علاقة الأب بابنته في شريط مارن آد نوعية غريبة إذ الخلاف بين الشخصيتين مبني على أساس غير منتظر كأنه اعتباطي أو غير مدروس فهو لا يُذكّـر بالطرق المعهودة التي ينبني عليها التناقض بل هي أقرب للسريالية منها للواقعية تماما كما أن تسلسل الأحداث لا يخضع لمنطق البناء الوضعي بل يبدو مختلاّ، فاختارت المخرجة نظاما سرديا غريبا ومزعجا تمنع غرابتُه إدراكَ تجانسِه.

أما «أكواريوس»  فمشكلته تكمن في وجهة نظره أي أن نقد التحولات العمرانية في البرازيل وهو موضوع ذو أهمية قصوى لم ينظر إليه المخرج بطريقة « موضوعية » أو واقعية بل من خلال نظرة كلارا (سنيا براغا) الذاتية وهذا ما شكل عائقا في فهم الفيلم لأن الموضوع ارتبط بعالم الشخصية الدّاخلي وهنا تكمن الإضافة أي في علاقة لاذهنية ولاأيديولوجية بل مادية بين جسم كلارا الذي ذاق عِـلّة السرطان (فقدت ثديا في مقاومته) وجسم المدينة الذي يتآكل بفعل سرطان الرأسمالية
مشكلة لجان التحكيم تكمن في الخلط بين الحكم على الأعمال كما لو كانت تمارين مدرسية وفي تقييمها تقييما فنيّا يقتضي قبولَ هزيمة الإنتظار.
هذا طبعا لا يعني أن « أساتذة » لجنة تحكيم المهرجان لم يأخذوا في الإعتبار عنصرَ المفاجأة فعملا الفرنسي أوليفيي أساياس والكندي غزافي دولان يحملان ما يمكن أن يمسّ  بأفق انتظارهم مع أن المفاجأة نسبية في كلتا الحالتين.

-الصورة للممثلة سنيا براغا بطلة فيلم أكواريوس (Getty images)